مرض التليف الكيسي

مرض التليف الكيسي

التليف الكيسي هو مرض وراثي صبغي جسمي متنحّ يحدث بسببه عجز مترقٍّ في عمل الغدد خارجية الإفراز، مما يُؤثر على وظائف متعددة في الجسم. فهو يُؤثر بصورة كبيرة على الرئتين، وبنسبة أقل على البنكرياس والكبد والأمعاء، حيث يُؤدي إلى تراكم طبقة سميكة ولزجة من المُخاط على تلك الأعضاء. فهو أحد أكثر الأمراض الرئوية المزمنة انتشارًا لدى الأطفال والشباب، فهو عبارة عن اضطراب جيني يُؤدي للوفاة. وفي الغالب، يرجع سبب الوفاة إلى الالتهاب الرئوي الذي تُسببه الزائفة والمكورات العنقودية.

كيف يحدث التليف الكيسي؟

يحدث التليف الكيسي بسبب وجود طفرة في الجين الذي يعمل على تشفر بروتين منظم الإيصالية عبر الغشاء في التليف الكيسي (CFTR)، حيث يُشارك هذا البروتين في مرور أيون الكلوريد من خلال أغشية الخلايا؛ ويُحدث وجود قُصور فيه إلى إحداث خلل في إنتاج العرق والعصارات الهضمية والمُخاط. ويتطور المرض في حالة تنحي كلا الأليلين. وقد تم اكتشاف ووصف أكثر من 1500 طفرة لهذا المرض؛ ومعظم تلك الطفرات عبارة عن عناصر صغيرة محذوفة أو طفرات دقيقة، حيث أنه أقل من 1% يرجع سببه إلى طفرات في إعادة ترتيب الكروموسومات.
يُؤثر التليف الكيسي على العديد من الأعضاء والأجهزة مسببًا بذلك إنتاج الغدد الإفرازية لمواد غير طبيعية وسميكة. فالأعراض الرئوية هي السبب الرئيسي للإصابة بالمرض والوفاة منه حيث تسببت في موت 95% من المصابين به. ويعود السبب إلى حدوث التهابات متكررة ناجمة عن انسداد الشعب الهوائية بسبب إفراز مُخاط سميك للغاية. ومن الأعضاء الأخرى المُتضررة البنكرياس والخصية عند الذكور.
وهو أيضًا أحد الأمراض الوراثية الأكثر انتشارًا بين القوقاز. ولذلك فإن تقريبًا واحد من كل 5000 من سكان تلك البلاد المُصاب بذلك المرض يُولد حيًا. ويُقدر ذلك بأن واحد من كل 25 فرد من أصل أوروبي يكون حامًلا لأليل متنحي.
ويُشير مصطلح التليف الكيسي إلى العمليات التي تتسم بوجود ندوب داخلية أو تليف مع تكوين كيسات داخل البنكرياس. وتم اكتشاف ذلك في عام 1930. كما يُطلق أيضًا عليه اسم لزوجة المُخاط.
يُطلب من المرضى الذين لديهم نسب عالية من الملح (كلوريد الصوديوم) في العرق بإجراء تشخيص من خلال اختبار فحص العرق. وأيضًا من خلال عمل فحوصات جينية قبل الولادة وبعدها عن طريق إجراء اختبار العرق جيبسون وكوك.
لا يوجد حتى الآن علاج شافٍ من ذلك المرض، على الرغم من وجود طرق علاجية تعمل على تحسين الأعراض وإطالة متوسط عمر المريض. وفي الحالات الخطيرة، قد يُؤدي تزايد المرض إلى ضرورة زرع رئة. ففي جميع أنحاء العالم، يصل متوسط عمر هؤلاء المرضى إلى 35 عامًا، في حين أن البلدان التي تتبع أنظمة صحية مُتطورة وصلت إلى نتائج أفضل؛ فعلى سبيل المثال في كندا، بلغ مُتوسط عمر الفرد 48 عامًا في 2010

الأعراض والعلامات

تتباين أعراض التليف الكيسي وفقًا لعمر الشخص ولمدى تأثيرها على الأعضاء والطرق العلاجية المُستخدمة وأنواع العدوى المُرتبطة به. ويُعيق هذا المرض الجسم بشكل تام، ويظهر أثره على النمو ووظيفة التنفس والهضم. ولأن مرحلة ما بعد الولادة تتسم بصِغر وزن المولود وبانسداد معوي ناجم عن سُمك البراز وغَلاظتِه، تظهر بعض الأعراض في مرحلة مُتقدمة؛ فمنها ما يظهر أثناء الطفولة ومنها ما يظهر في بداية عمر البلوغ. وجميع الأعراض تُؤدي إلى تأخر النمو وظهور الأمراض الرئوية وزيادة المشاكل التي يُسببها سوء امتصاص الفيتامينات والعناصر الغذائية في الجهاز الهضمي.
يتم تشخيص التليف الكيسي عند معظم الأطفال قبل السنة الأولى من العمر، وذلك عند ظهور نتائج تأثير لزوجة المُخاط على الرئتين والبنكرياس. ففي الجهاز التنفسي، تُصبح هذه الإفرازات بمثابة أرض خصبة للعديد من البكتيريا المسئولة عن العدوى المُزمنة فتُسبب تلف تدريجي ومُستمر للنسيج البارينشيمي بالخلايا الرئوية. وتزداد الحالة التنفسية سوءًا، حيث أن المصابين بذلك المرض يُعانون من ارتفاع ضغط الدم الرئوي. ومن ناحية أخرى، في البنكرياس، يُعيق المُخاط مرور الإنزيمات التي تفرزها الغُدة، وبالتالي يمنع وصولها إلى الأمعاء لهضم وامتصاص الطعام.

أمراض الرئة والجيوب الأنفية

رشاشية دخناء، هو نوع فطر شائع يُمكن أن يُؤدي إلى تزايد نسبة الإصابة بمرض الرئة عند مرضى التليف الكيسي.
تنتج أمراض الرئة من انسداد الشعب الهوائية الصغيرة بالمُخاط السميك مُسببة بذلك التليف الكيسي. ويُسبب الالتهاب والعدوى تلف بالرئتين، كما يُحدث تغَيُرات هيكلية تُؤدي فيما بعد إلى ظهور عدة أعراض مُتنوعة. ففي المراحل الأولى، عادًة ما يُعاني المريض من سُعال مُتواصل وإفراز كميات كبيرة من المُخاط وصعوبة القدرة على التنفس. وتحدث العديد من هذه الأعراض بشكل سريع عند نمو أنواع معينة من البكتيريا، (وبخاصة الزائفة الزنجارية) التي تعيش عادة في المُخاط السميك، مُسببة بذلك ذات الرئة. وفي مراحل مُتقدمة من التليف الكيسي، تحدث تغيرات في بنية الرئة تُؤدي، فيما بعد، إلى حدوث صُعوبات تنفسية مُزمنة.
هناك العديد من الأعراض الأخرى منها: نفث الدم أو بصق الدم وتوسع حاد ومزمن في الشعب الهوائية أو القصبيات (القصبات) وارتفاع ضغط دم الرئة وحدوث قصور القلب والشعور بعدم الحصول على كمية كافية من الأكسجين أو ضيق التنفس أو الفشل التنفسي أو انخماص الرئة الذي قد يتطلب اللجوء للتنفس الاصطناعي. وبالإضافة إلى تلك العدوى البكتيرية الأكثر شيوعًا، تتطور أنواع جديدة من أمراض الجهاز التنفسي لدى الأشخاص المصابين بالتليف الكيسي بسهولة كبيرة. ومن بين ذلك نجد داء الرشاشيات القصبي الرئوي التحسسي، وهو عبارة عن شدة تحسس الجهاز المناعي لنوع من الفطريات (عفن) ينتمي لجنس الرشاشيات (الرشاشية الدخناء)، مما يُؤدي إلى تزايد المشاكل التنفسية. وأيضًا نجد الإصابة بعدوى مركب المُتفطرات الطيرية، وهي عبارة عن مجموعة من البكتيريا الشعاوية التي تتصل بنوع المُتَفَطِّرة السُلِّية والتي يمكن أن تُلحق أضرار كبيرة بالرئة، وهي لا تستجيب عادةً للمضادات الحيوية التقليدية.
وتُؤدي أيضا لزوجة وسُمك المُخاط في الجيوب الأنفية، إلى انسداد الثقوب التي عادة ما يتم الصرف من خلالها، الأمر الذي يجعل من تراكم تلك الإفرازات أرض خصبة لمسببات الأمراض الآنف ذكرها. وفي هذه الحالات، قد يُؤدي ذلك إلى ظهور آلام بالوجه وحمى ورشح شديد وصداع. ويُلاحظ غالبًا على الأشخاص المصابين بالتليف الكيسي نمو مفرط في النسيج الأنفي (بوليب)، ويظهر ذلك نتاج للالتهاب الذي يحدث إثر الإصابة بعدوى الجيوب الأنفية المزمنة. ويمكن أن تزيد هذة البوليبات بسبب انسداد الشعب الهوائية العليا، وتُضاعف من صعوبات التنفس.

أمراض الجهاز الهضمي والكبد والبنكرياس

قبل انتشار فحوصات ما قبل الولادة وما بعدها للكشف عن مرض التليف الكيسي، كان يتم الكشف عنه عادًة في حالة عدم قدرة الطفل المولود على طرد أول براز له (العِقْيُ)، الذي يمكنه أن يسد الأمعاء ويُؤدي لحدوث اضطرابات خطيرة. وتُسمى هذه الحالة بالعلوص العِقْيُ وتٌصيب 10% من المواليد المصابين بالتليف الكيسي. وتم مؤخرًا تحديد المُتغيرات الوراثية في الجينات التي لها علاقة بنقل الأيونات في الأمعاء الدقيقة التي تؤدي إلى تطور العلوص العِقْيُ. ومن الشائع أيضًا، ارتباط وجود التليف الكيسي مع بروز الأغشية المُستقيمة الداخلية، تدلي المستقيم، ويرجع ذلك إلى زيادة حجم البراز وسوء التغذية وارتفاع الضغط داخل المعدة بسبب السُعال المُزمن.
يرتبط المُخاط اللزج المُتواجد على الرئة بالإفرازات السميكة الخاصة بالبنكرياس، العضو المسئول عن توفير العُصارات الهاضمة التي تساعد في التحلل الكيميائي للطعام. وتمنع هذه الإفرازات حركة الإنزيمات الهضمية إلى الأمعاء، وتنتج بذلك أضرار جَسيمة لا يُمكن إصلاحها في البنكرياس، وغالبًا ما يُصاحب ذلك التهاب شديد. ويُؤدي نقص الإنزيمات الهاضمة إلى إعاقة امتصاص العناصر الغذائية ومع إفراز تلك المواد لاحقًا في البراز يحدث ما هو معروف بسوء الامتصاص الذي يُؤدي إلى نقص التغذية وتأخر النمو، ويرجع كليهما إلى قلة الاستفادة الحيوية من السعرات الحرارية. لذلك، فإن الأشخاص المُصابين بالتليف الكيسي، على وجه الخصوص، يُعانون من مشاكل في امتصاص فيتامين ألف وفيتامين دي، وإي، وك. وإلى جانب إصابة البنكرياس، عادًة ما يُعاني هؤلاء المرضى من ارتجاع مريئي حاد وجفاف الحلق وانسداد الأمعاء بسبب الانغلاف المعوي والإمساك. وتَطَورت أعراض الانسداد المعوي عند المرضى كبار السن، وذلك بسبب لزوجة البراز.
يُمكن أن تؤدي هذه الإفرازات أيضًا إلى حدوث مُشكلات في الكبد. فالعُصارة الصفراوية التي تُفرزها الأحشاء لتسهيل الهضم، من المُمكن أن تُؤدي إلى انسداد القنوات الصفراوية وتُلحق الضرر بالأنسجة المُجاورة لها. ويُؤدي هذا في نهاية الأمر إلى حدوث تليف كبدي. وفي تلك الحالة، تتعرض كافة الأعضاء لخطر من الدرجة الأولى من قبيل: التدخل في إبطال مفعول الذيفان، وفي تركيب بعض البروتينات المُهمة، على سبيل المثال عوامل التخثر المسؤلة عن تجلط الدم.

أمراض الغدد الصماء والنمو

عادة ما يُعاني الأشخاص المُصابين بالتليف الكيسي من تضخم وتشوه الأصابع، الذي يُعرف بتعجر الأصابع أو الأصابع الأبقراطية.
يحتوي البنكرياس على جزر لانغرهانس المسئولة عن إفراز الإنسولين، وهو هرمون يُساعد على تنظيم مستويات الجلوكوز في الدم. وقد يُؤدي حدوث أي تلف في البنكرياس إلى فقدان خلايا جزر لانغرهانس مما يُسبب داء السكري. ومن ناحية أخرى، يُساعد فيتامين دي في تنظيم نسبة الكالسيوم والفوسفور في الجسم. ويُؤدي نقص فيتامين دي، الذي يرجع لضعف التغذية، إلى هشاشة العظام مما يزيد من خطر الإصابة بكسور. علاوة على ذلك، فإن الأشخاص المُصابين بالتليف الكيسي عادًة ما يظهر في أيديهم وأرجلهم تشوهات تُعرف بتعجر الأصابع، التي تُعود أسبابها إلى ذلك المرض المُزمن وأيضًا إلى نقص التأكسج في عظام المريض.
من السمات المميزة أيضًا لهذا المرض تأخر النمو. فبشكل عام، يُلاحظ على الأطفال المُصابون بهذا المرض نقص حاد في الوزن مُقارنة بأقرانهم. وفي كثير من الأحيان، يتم التشخيص بشكل أكثر دقة بعد أن يتم التحقق من أسباب هذه الظاهرة. وأسباب تأخر النمو متعددة، فهي تشمل على عدوى الرئة المُزمنة وسوء امتصاص المواد الغذائية في الجهاز الهضمي وزيادة الأيض المُتعلق بتلك الحالة.
يُمكن تشخيص التليف الكيسي عن طريق فحص الأطفال حديثي الولادة وإجراء اختبار لقياس نسبة التعرق بالكهرباء أو الاختبارات الجينية. ففي عام 2006، في الولايات المتحدة الأمريكية، تم فحص 10% من المواليد بعد الولادة مُباشرة، وذلك في إطار برامج فحص المواليد الجدد، والتي من شأنها أن تُحدد مدى ارتفاع إنزيم التربسن. ومع ذلك، فإن معظم البلدان لا يجري فيها مثل هذه الفحوصات بشكل روتيني. ولهذا السبب، فإن الأشخاص المُصابين لا يتلقون التشخيص المُناسب إلا بعد ظهور أعراض المرض عليهم. فالفحص التشخيصي الأكثر شيوعًا واستخدامًا لهذا المرض هو اختبار العرق، كما وصفه دكتور لويس إي جيبسون ودكتور روبرت كوك عام 1959، عبر استخدام رحلان كهربائي كمي، إرحال أيوني، جنبًا إلى جنب مع عقار محفًز للتعرق، بيلوكاربين. وتتم هذه العملية عن طريق تطبيق هذه المادة، التي تحمل شُحنة مُوجبة على قطب كهربائي مُوجب (+) في اتصال مع الجلد. وبعد تمرير التيار الكهربائي، يُهاجر العقار من الغشاء عبر قطب آخر يحمل شُحنة سالبة (-)، بحيث يتم وضع مسافة مُحددة حتى مرورها عبر البشرة، وينتج عن ذلك تحفيز الغُدد العرقية مسببًة إفراز نسبة مُحددة من العرق. بعد ذلك، يتم تجميع عينات العرق على ورق ترشيح أو في أنبوب شعري ومن ثَم يتم تحليلها وتحديد مدى تركيز الصوديوم والكلوريد. فالأشخاص المُصابون بالتليف الكيسي لديهم نسب أعلى من هذه الأيونات في العرق. وبمجرد أن تُظهرالفحوصات نتائج إيجابية لاختبار العرق، يتم التشخيص بشكل أكثر تفصيًلا ودقة، وذلك من خلال تحديد الطفرات في الجين الذي يعمل على تشفر بروتين منظم الإيصالية عبر الغشاء في التليف الكيسي.(CFTR).
هناك العديد من الاختبارات لتحديد المُضاعفات المُحتملة ومُراقبة تطور المرض. فالصور التي حصلت عليها الأشعة السينية والمقطعية تُسهل الكشف عن علامات الإصابة أو عدوى الرئتين. ويتم زرع القشع باستخدام الميكروسكوب، فهو اختبار يُساعد في الكشف عن نوع البكتيريا التي تُصيب الرئة أو الشُعب الهوائية، كما يساعد في اختيار المضادات الحيوية الأكثر فعالية للمرض. فتقيس اختبارات قياس الوظائف التنفسية سعات الرئة وحجمها وسرعة الرئتين في تعبئة الهواء وتدفقه. ومن خلال هذة الاختبارات، يُمكن تحديد ما إذا كان العلاج بالمضادات الحيوية مُلائم أو عمل تقييم لاستجابة المريض لهذه المضادات. فاختبارات تحليل الدم تُساعد في التعرف على مشاكل في الكبد ونقص الفيتامينات وتكشف عن ظهور مرض السكري. يقوما الجهازان ديسكا أو ديسك بقياس امتصاص الأشعة السينية ثنائي البواعث لصحة العظام، والتي تُعتبر كدليل لوجود مرض هشاشة العظام. وفي النهاية، فإن تحديد نسبة الإيلاستاز في البراز، يُساعد في الكشف عن قصور الإنزيمات الهضمية.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *